#فتنة_التطور: قشور التدين وبريق التكنولوجيا: نفاق العصر وتيه الفطرة، هل يطفئ بريق المادة نور الإيمان والفطرة؟ (من منظور مدرسة أهل البيت عليهم السلام)
- HUSSEIN AL BAHRANI
- 8 أبريل
- 4 دقائق قراءة
يشهد عالمنا المعاصر صعودًا مطردًا لمنجزات التطور المجتمعي والتكنولوجي، وهي وإن حملت في طياتها بشائر التقدم والرفاهية، إلا أنها تنذر بمخاطر جسيمة تهدد أثمن ما يملكه الإنسان: إيمانه بالله تعالى وفطرته النقية التي فطره عليها. فهل يمكن لبريق المادة الصارخ أن يخفت نور اليقين ويطمس معالم الهداية الربانية؟
لقد أكد القرآن الكريم مرارًا وتكرارًا على حقيقة الفطرة الإلهية المغروسة في أعماق كل إنسان. يقول تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الروم: 30). وفي هذا السياق، يقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إلى الحالة التي جاء بها إلى الدُّنيا : ((فَإِنِّي وَلِدْتُ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَسَبَقْتُ إِلَى الاِيمَانِ)) و قال الإمام الكاظم عليه السلام : «إنّ للَّهِ علَى النّاسِ حُجَّتَينِ: حُجَّةٌ ظاهِرَةٌ وحُجَّةٌ باطِنَةٌ، فأمّا الظّاهِرَةُ فالرُّسُلُ والأنبياءُ والأئمّةُ عليهم السلام، وأمّا الباطِنَةُ فالعُقولُ»". فالإيمان كامن في العقل والفطرة، ينتظر فقط التذكير والتوجيه.
إلا أن التطور المجتمعي السلبي، الذي يركز على زخرف الحياة الدنيا ويلهث خلف الشهوات، قد يصبح حجابًا كثيفًا يحجب نور الفطرة. يقول تعالى محذرًا من هذا الانشغال المفرط: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} (التكاثر: 1-2). فالانغماس في جمع المال والمفاخرة به قد يصرف الإنسان عن الغاية الحقيقية لوجوده وعن التوجه إلى خالقه. وقد وصف الإمام الصادق (عليه السلام) حال المنغمسين في الدنيا بقوله: "مَنْ أَصْبَحَ وَأَمْسَى وَالدُّنْيَا أَكْبَرُ هَمِّهِ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَشَتَّتَ أَمْرَهُ وَلَمْ يَنَلْ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُسِمَ لَهُ".
أما التطور التكنولوجي، الذي يقدم للإنسان سيلًا جارفًا من المعلومات والترفيه، فقد يتحول إلى سيف ذي حدين. فبينما يمكن استخدامه في نشر الخير والمعرفة، قد يستغل أيضًا في بث الشبهات وتزيين الباطل وصرف الأنفس عن ذكر الله. يقول تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ * وَقَالُوا إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} (الصافات: 14-15). فالإنسان الذي ينبهر بظواهر التكنولوجيا المادية قد يغفل عن الآيات الإلهية الكامنة في الكون وفي نفسه. وقد حذر الإمام علي (عليه السلام) من فتنة الدنيا وزخارفها بقوله: "فَلْتَكُنِ الدُّنْيَا (فِي أَعْيُنِكُمْ أَصْغَرَ) مِنْ حُثَالَةِ الْقَرَظِ وقُرَاضَةِ الْجَلَمِ"، أي اجعلوا الدنيا أحقر في نظركم من فتات النباتات التي لا يُنتفع بها، ومن بقايا الصوف المتساقط عند جزّ الغنم، وكلتاهما من أرخص ما يُلقى جانبًا، وفي ذلك إشارة إلى حقارة الدنيا مهما زُيّنت.
من منظور مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، فإن هذا الابتعاد عن الفطرة والإيمان يؤدي حتمًا إلى فقدان التوازن الروحي والأخلاقي. فالإنسان الذي يهمل علاقته بخالقه ويغرق في ملذات الدنيا الفانية يصبح أسيرًا لشهواته وأهوائه، وينحدر في سلم القيم الإنسانية. وقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: "مَا ذِئْبَانِ ضَارِيَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ قَدْ غَابَ عَنْهَا رُعَاتُهَا بِأَفْسَدَ فِيهَا مِنْ حُبِّ الْمَالِ وَالشَّرَفِ فِي دِينِ الْمُسْلِمِ". فحين يستولي حب الدنيا والمنصب على قلب الإنسان، فإنه يعميه عن الحق ويقوده إلى ارتكاب ما لا يرضاه الله ورسوله وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام).
بل إن الخطر الأعظم يكمن في أولئك الأفراد والمجتمعات التي تغرق في مستنقع الشهوات وتفتتن ببريق التطور التكنولوجي، ولكنها في الوقت ذاته تتستر بستار الدين وتمارس شعائره بشكل سطحي وشكلي. هذا التناقض الصارخ بين الظاهر والباطن هو عين النفاق وداء ذو الوجهين الذي حذر منه القرآن الكريم وأهل البيت (عليهم السلام) أشد التحذير. يقول تعالى في وصف المنافقين: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (البقرة: 9). وقد وصف الإمام علي (عليه السلام) المنافقين في الخطبة 194 في نهج البلاغة بقوله: "وَ أُحَذِّرُكُمْ أَهْلَ النِّفَاقِ فَإِنَّهُمُ الضَّالُّونَ الْمُضِلُّونَ وَ الزَّالُّونَ الْمُزِلُّونَ، يَتَلَوَّنُونَ أَلْوَاناً وَ يَفْتَنُّونَ افْتِنَاناً...الخ". فهؤلاء يتظاهرون بالدين ليحققوا مصالح دنيوية أو ليغطوا على انحرافاتهم، وهم في حقيقة الأمر أبعد ما يكونون عن جوهر الإيمان وروحانيته. إن ممارساتهم الدينية الشكلية لا تعدو كونها قشورًا خالية من اللب، ولا تزيدهم من الله إلا بعدًا، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : (ان الله تبارك وتعالى لاينظر الى صوركم ولا الى أموالكم ولكن ينظر الى قلوبكم وأعمالكم )
هناك دراسات وأبحاث أكاديمية نُشرت في جامعات دولية تناولت بعمق دور الحداثة والتطور في التأثير على العلاقة الدينية والعقدية والفطرية للإنسان، مشيرةً إلى مدى تأثيرهما في إعادة تشكيل ماهية الإنسان وهويته الجوهرية، ويمكن للباحثين الاطلاع عليها لاستكشاف أبعاد هذا التحول:
1. "Secularization Theory" – نظرية العلمنة: تفترض أن التطور والحداثة يؤديان إلى تراجع دور الدين في المجتمع.
2. "Counter-Secularization Theories" – نظريات المقاومة للعلمنة: تجادل بأن الدين لا يزال قوياً أو حتى يزدهر في ظل الحداثة.
3. "Religious Transformation Theories" – نظريات التحول الديني: ترى أن الدين لا يتلاشى بل يتكيف ويتغير مع الزمن.
4. "Modern Society and Human Values" – المجتمع الحديث والقيم الإنسانية: تناقش تأثير المجتمع الحديث على القيم الإنسانية.
5. "Impact of Modernity on Ethics" – تأثير الحداثة على الأخلاق: تبحث في كيفية تأثير الحداثة على الأخلاق والمعايير الأخلاقية.
6. "Influence of Technology on Moral Values" – تأثير التكنولوجيا على القيم الأخلاقية: تستكشف دور التكنولوجيا في تشكيل القيم الأخلاقية.
7. "Social Change and Innate Human Morality" – التغير الاجتماعي والأخلاق الفطرية: تناقش العلاقة بين التغير الاجتماعي والأخلاق الفطرية لدى البشر.
8. "Erosion of Traditional Values in Modern Society"– تآكل القيم التقليدية في المجتمع الحديث: تتناول تراجع القيم التقليدية في المجتمعات الحديثة.
وتشير أغلب الدراسات في هذا المجال إلى وجود ارتباط وثيق بين الانغماس في الماديات والتكنولوجيا وبين ضعف الوازع الديني وتراجع القيم الروحية. ومن هذا المنطلق، حين نتأمل في منهج أهل البيت (عليهم السلام) ونستلهم من نور هدايتهم، نجد أنهم (سلام الله عليهم) قد أكدوا بجلاء على محورية القرآن الكريم في ترسيخ الأبعاد الروحية والفطرية للإنسان، وضرورة التمسك بالهدي الإلهي وتعاليمهم السامية لتحصين النفس من فتن العصر. وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد إذا أصابه الماء، قيل: وما جلاؤها؟ قال: كثرة ذكر الموت وتلاوة القرآن".
ختامًا، تكمن خطورة فتنة التطور المجتمعي والتكنولوجي في قدرتها على إغواء الإنسان بملذات زائلة، وإغرائه بالركون إلى الدنيا حتى يغفل عن الغاية الأسمى لوجوده. ومن منظور مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، فإن النجاة من هذه الفتنة لا تتحقق إلا بوعي عميق بحقيقة الدنيا وفنائها، وتمسك راسخ بحبل الله المتين، وتزكية مستمرة للنفس بالعبادة والذكر والتأمل في آيات الله. فالاقتداء بسيرة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام) هو السبيل الآمن لعبور بحر الحياة المتلاطم بأمواجه العاتية لانهم سفن النجاة قال رسول الله صلى الله عليه و اله (مثل اهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا و من تخلف عنها -هلك- غرق و هوى). إن الحفاظ على نور الإيمان متوهجًا في وجه بريق المادة الزائف هو الضمان الحقيقي لسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة.

Comments